الأعمال التاريخية- وقود الفتنة أم هوية مشتركة؟

المؤلف: بشرى فيصل السباعي09.29.2025
الأعمال التاريخية- وقود الفتنة أم هوية مشتركة؟

في بقعة من العالم لا تزال مثقلة بالنزاعات الطائفية المتجذرة في الماضي، وبؤر الإرهاب، والميليشيات المتعصبة، والفتن الداخلية، والاقتتال الأهوج على أساس الهوية الضيقة، وترديد شعارات الانتقام لوقائع تاريخية غابرة تعود لأكثر من ألف وأربعمئة عام، فإن تقديم أي مادة تاريخية تتناول تلك الأحداث والشخصيات التي تثير الفرقة المذهبية يعد بمثابة صب الزيت على نار الفتنة المستعرة، بل وقد يؤدي إلى زهق أرواح بريئة على أرض الواقع. إن أسلم سبيل للتعامل مع التاريخ في مثل هذه الظروف العصيبة هو تركه يضجع في سلام، وعدم إزعاجه بالمسلسلات والأفلام التاريخية التي قد تشعل نار التعصب. يكفينا أن منطقتنا تعيش أسيرة الماضي، غائبة عن الحاضر ومتجاهلة للمستقبل. وهذا يفسر ندرة الأعمال السينمائية والتلفزيونية والروايات العربية التي تتناول المستقبل، بينما في الغرب، تحتل الإنتاجات المستقبلية مكانة بارزة في المشهد الفني والأدبي. هذا التباين الصارخ يعكس الفرق بين أمة متشبثة بالماضي وأخرى تتطلع إلى المستقبل. ولو كان الانغماس في التاريخ والماضي بلا عواقب وخيمة، لكان الأمر هيناً، لكن المصيبة العظمى تكمن في أن هذا الانغماس هو الوقود الذي يغذي الانقسامات والصراعات الطائفية والقتل على أساس الهوية. وإن كان لا بد من إنتاج مواد تاريخية، فهناك الكثير من الشخصيات الملهمة في مجالات العلوم والآداب والمعارف التي لا تثير حساسية طائفية، بل تشكل هوية مشتركة بين مختلف الطوائف. ومن الأهمية بمكان إعلاء شأن هؤلاء الرموز وعدم اقتصار التكريم على الشخصيات السياسية التي تثير النزاعات. إن معضلة العرب تكمن في تسييس كل شيء، ولذا فهم بحاجة إلى هوية جامعة بديلة عن الهوية المسيسة التي تفرق ولا تجمع. وحتى من الناحية التجارية البحتة، فإن الأعمال التاريخية التي تتناول الشخصيات المثيرة للانقسام والصراع لا تحظى بالنجاح العالمي الذي تحققه الأعمال التاريخية التركية؛ لأن القنوات العالمية تدرك تأثيرها السلبي على السلم الأهلي الهش في معظم المجتمعات المسلمة، ولذا فهي تتجنب عرض مثل هذه الأعمال مهما بلغت جودة إنتاجها التقني. يجب أن يبقى مجال التدقيق في التاريخ وتمحيصه حكراً على الأكاديميين في العالم الإسلامي، الذين لا يطالع إنتاجهم إلا المختصون، ولا يصل غالباً إلى الرأي العام، وبالتالي لا يكون له تأثير يذكر على إثارة النعرات الطائفية لدى الجمهور. وهناك ضرر آخر للمسلسلات التاريخية يتمثل في أنها تقدم عالماً افتراضياً للجماعات الإرهابية التي تسعى إلى إعادة المجتمعات المسلمة إلى العصور الوسطى تحت ستار الخلافة بالقوة والإرهاب. حتى أن خرائطهم تحمل أسماء البلدان كما كانت في العصور الوسطى. فالعقل المسلم لا يزال في غالبيته عالقاً في الماضي، ويرى أن إصلاح الأوضاع الراهنة يتم بالعودة إلى التاريخ بدلاً من التوجه نحو تصورات مستقبلية جديدة. إن الأعمال الفنية والأدبية يجب أن تفتح آفاق العقل الجمعي على ما يتجاوز هذا القالب السائد. فلماذا يعجز العقل العربي والإسلامي عن إنتاج عمل تمثيلي واحد يتناول المستقبل؟ هل هو نقص في الخيال؟ لعل هذه الأعمال تلهم الأجيال الضائعة بين الحروب والإرهاب والتحريض الطائفي بواقع مختلف وأفضل من حاضرهم البائس. هناك أجيال بأكملها لم تعرف سوى الحروب والإرهاب والصراعات الطائفية، ولذا فإن الأعمال التمثيلية التي تتناول المستقبل ستمثل نافذة لهم على واقع مختلف، وقد تلهمهم لتغيير واقعهم المرير. بينما ما هي الفائدة المرجوة من إنتاج أعمال تمثيلية تاريخية؟ فمن أراد الفخر بالهوية، فالفخر الحقيقي يكمن في إنجازات ونجاحات الحاضر والمستقبل، وليس في أمجاد الماضي الغابر. فالدول الصناعية لا تتباهى بتاريخها القديم، بل تفتخر بإنجازاتها الحالية وبنائها للمستقبل الزاهر. وربما سيأتي زمن مستقبلي يكون فيه من المناسب والآمن إنتاج أعمال تمثيلية تاريخية، عندما لا يكون لها تأثير تحريضي على الصراعات الطائفية، ولا تلهم الجماعات الإرهابية لتقليد التاريخ وإعادته إلى الحياة عبر العنف والإرهاب، وعندما لا تكون المنطقة العربية والإسلامية غارقة في الحروب الأهلية والإرهاب والصراعات الطائفية وتعيش في كنف السلم الأهلي المتين.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة